"المدن تهاجر أيضاً" قراءة في العرض المسرحي ( سيرك ) للكاتب والمخرج جواد الاسدي
"المدن تهاجر أيضاً" قراءة في العرض المسرحي (سيرك) للكاتب والمخرج جواد الأسدي
رحلة بحث عن خلاص نفسي وجسدي
على الرغم من قول أحد أبطال العرض، وهو كاتب مستلب (لبيد) ل(كميلة): "مع ذلك ستضاءُ شجرةُ الحياة في هذه المدينةِ ثانيةً"، إلا أن هذه الشرارة من الأمل تبقى غير كافية لاحتواء القسوة والخوف اللذين يسيطران على عالمٍ بلا حرية. في مثل هذا العالم، يصبح الرحيل خياراً مُتاحاً، إلا أن الرحيل يزيد من الحنين والتردد بين مواصلة الهجرة أو قبول الوطن بلا شروط. وبين البقاء والرحيل، يصبح الإنسان حبيس أزمة البحث عن الخلاص الفردي النفسي والجسدي معاً.
سيرك بلا حدود: تداخل الإمتاع بالمخاطرة
يشير الحوار بين (كميلة) و(لبيد) حول الزمن والحرب والهجرة والحب إلى واحدة من خلاصات عالم مسرحية (سيرك) للكاتب والمخرج العراقي جواد الأسدي. السيرك هنا يدل مباشرة على عالم الترويض وتداخل الإمتاع بالمخاطرة، في مجتمع من المهرجين والحيوانات المدربة وغيرهم من ذوي المهارات الأدائية. منطقة الحذر من الأخطاء القاتلة ( "في العالمِ المملُوءِ أخطاءَ، مُطالَبٌ وحدَكَ ألا تُخْطِئ" )، حيث تبادل الأدوار بين الحيوان الذي يروّضه الإنسان، والانسان الذي تروضه السلطة وتختار له التهمة المناسبة لتجعله حبيسَ طاعتها والخوف منها.
شعورية الحكاية: لغة شعرية وتخيل واسع
قوة حكاية الأسدي لا تكمن فقط في خطوطها العامة، بل في اللغة الشعرية التي قام عليها الحوار، والتي منحت سينوغرافيا العرض حرية مطلقة في إنشاء مفردات دالة (الأشجار والحريق ومشاهد الدم) في مستوى عال من التورية. السنوغرافيا هنا كمفهوم حديث هي بيئة عناصر العرض ومعماره الرؤيوي الذي يقوم على خاصية الاشارة والتلميح والمجاز ووحدة العلاقة بين مكونات العرض بتشكيل الكتلة والضوء واللون والفراغ والحركة والموسيقى والديكور. وتترجم خلاصة وحدة هذه الأدوات أثراً بصرياً دالاً، وتمنحها تأثيراً عاطفياً، بضم ساحة العرض والجمهور معا إلى مناخ مشترك.
بيان وجودي: نداء ضد الظلم والحرب
مضى الأسدي المؤلف إلى مناطق قصوى من شعرية الحوار، أرهقت الشخصية في بعض جوانبها وجعلتها في تنافس مع تدفق المعاني وتداعي الدلالات والاشارات والمرامي المتواصل. وكأنّ الأسدي يريدُ قول كلّ شيء دفعة واحدة في هذا العرض، من تذمر واحتجاج وصراخ ضد الظلم والحرب. حتى أن المشهد الأخير الذي أدّته العملاقة شذى سالم كان وحده بحاجة الى طاقة فوق العادة جسدياً وشعورياً وتركيزا، وهو يبدو أشبه بالبيان الوجودي المنسوج بلغة مركّبة من نمط الكتابة التي تقرأ بتأمل، لا تُسمع على عجالة، لولا قدرة شذى على أداء هكذا نص وإيصاله قدر الإمكان متزامناً مع خروجها من يأس تام بعد أن فقدت آخر أمل بان تكون على علاقة بلبيد الكاتب الذي حلمت به.
المدن تهاجر أيضاً: تدمير ورحيل
في دائرة الشعرية أيضاً هناك ما يشبه التشعبات في هذا المضمار كما يرد في مشهد الحديث عن الضابط لدى اعتقاله كميلة. (الكلب والضابط، تم استعراض أفعالهما ومواقفهما عبر الإخبار وليس تجسيداً كما أشرنا) ومن ذلك حديثه عن الشعر، والكتب التي في مكتبه والطلب من كميلة قراءة قصيدة محمود درويش ("أبد الصبار") وما يرد فيها: "لماذا تركت الحصان وحيدا". وهي مفارقة فعلا لاتبدو في محلها وتزيد مستوى الانزياح في النص وتحميله الكثير من الأعباء التأويلية. فكيف لشخصية سلطوية سادية بهذا المستوى أن يكون على هذا النحو من المعرفة والثقافة والإحساس؟ إلاّ إذا أراد الأسدي اتجاهاً جانبياً بالاشارة الى شرطة الثقافة المنتشرين داخل المجتمعات كوسيط خبيث بين الناس والأجهزة القمعية. لكنّ ما هو في صالح هذا النص فقط حسب توصلنا هو تلك الجملة الثاقبة في القصيدة ( "فالبيوت تموت إذا غاب سكانها" )، والبيوت ترحل، والمدن تهاجر أيضاً والحضارات تتداعى إذا ما انتهك الإنسان وغاب ومات.
أداء مميز: نجوم مسرحية "سيرك"
بالفعل كما قال جواد الأسدي بأن الممثل هنا هو المخلص الحقيقي للعراق المسرحي، امكانية عالية أبرزها أداء علاء قحطان الذي أدى واحدا من أعقد أدواره المركبة، وكان مبدعاً محترفا مثله أحمد الشرجي المبدع. فقد كانا بحق اكاديميين وعارفين مثقفين في هذا العرض، تتقدمهما شذى سالم التي قلت فيها هنا ما تستحق وهي على هذا المستوى الرفيع من الإحساس والقدرة على العطاء. هذه الكوكبة بالتأكيد تظافرت معها مكونات السينوغرافيا ومفرداتها بجهود مبدعة منحت العرض كل هذا الحضور والتأثير.
تم نشر هذا المقال بواسطة تطبيق عاجل
التطبيق الأول لمتابعة الأخبار العاجلة في العالم العربي
اضغط لتحميل التطبيق الآن مجاناً