الهويّة... والحريّة الأدبيّة
الهويّة... والحريّة الأدبيّة
لغة الكتابة: هل هي دليل الهويّة الأدبيّة؟
يُثار سؤال هام حول تحديد هويّة الأدب، هل هي اللغة التي يُكتب بها أم القضايا والمواضيع التي تُناقش؟ وهل يُمكن للأديب أن يختار لغةً غير لغته الأمّ دون أن يُعتبر خائناً لهويّته الثقافية؟
مثلاً، بالنسبة للأدب الكرديّ المكتوب بالعربية أو التركية أو الفارسية، يواجه الكُتّاب تساؤلات حول انتماء هذا الأدب، هل يُصنف ضمن الأدب الكرديّ أم في مكتبة الأدب العربيّ أو التركيّ أو الفارسية؟
هذه التساؤلات تُثير نقاشاً أوسع حول مفهوم الأدب والحرّية الأدبية في اختيار اللغة وأبعادها. فالنظر إلى الأدب فقط من خلال لغة الكتابة يُضيق آفاق فهمنا لهويّته، لا سيّما في ظلّ العصبيّات اللغويّة التي غالباً ما تكون انعكاساً للصدامات السياسيّة والصراعات التاريخيّة.
الظروف التاريخيّة وتأثيرها على الكُتّاب الكرد
لم يَخفَ على أحد أنّ الكُرد عانوا عبر التاريخ من ظروف سياسيّة واجتماعية صعبة، ممّا جعلْ لغتهم وثقافتهم عرضةً للتهميش والتجاهل في الكثير من المناطق التي عاشوا فيها. هذه الظروف التاريخية دفعت بالعديد من الأدباء الكرد إلى دراسة لغات أخرى غير لغتهم الأمّ، مثل العربية والتركية والفارسية، واستخدامها في كتاباتهم.
أصبح هذا الواقع مفروضاً على الأجيال المتعاقبة من الكُرد، إذ اضطرّ العديد من المثقفين والأدباء إلى الكتابة بلغات الآخرين - التي أصبحت لغاتهم الأمّ إلى جانب لغتهم الكرديّة - لتحقيق التواصل مع مجتمعات أوسع، أو حتى مع مجتمعهم نفسه، والبحث عن فرص لنشر أعمالهم في ظلّ القمع المفروض على لغتهم الأمّ.
اللغة وسيلة للتعبير عن الهويّة
على الرغم من الضغوط التاريخية، لم تُضعف هذه الظروف هويّة الكُرد الثقافيّة، بل على العكس، تمكّن العديد من الكتاب الكُرد من استثمار هذه اللغات الجديدة للتعبير عن قضاياهم وتجاربهم، مع الحفاظ على روحهم الكرديّة الواضحة في مضامين أعمالهم.
عندما ننظر إلى الأدب الكرديّ المكتوب بلغات أخرى، نجد أنّه يعبر عن تجربة متنوّعة ومعقدة. الكاتب الكرديّ الذي يختار الكتابة بالعربية أو التركية أو الفارسية لا يتخلّى عن هويّته، بل يعبّر عن ذاته باللغة التي تمكّن منها واكتسب علومه ومعارفه ودراساته بها، ويبحث عن جمهور أوسع وتواصل أكبر مع العالم من خلال لغة قد تكون أداة أفضل لتحقيق ذلك.
من هذا المنطلق، يجب الدفاع عن حريّة الأديب في اختيار لغته، وما يهمّ في هذه الحالة هو القضايا التي يعالجها الكاتب، وكيفية تناوله للتجربة الإنسانيّة.
التعدد اللغوي: ثراء وليس خيانة
من المؤسف أنّ الكاتب الذي يختار الكتابة بلغة أخرى غير لغته الأم يُتّهم أحياناً بالخيانة، أو يُنظر إليه على أنه دخيل على الأدب الآخر. هذا التفكير يغلق الأبواب أمام تعدّدية التجارب وثراء الأدب. والكاتب الذي يكتب بلغة "الآخر" ليس غريباً أو طارئاً، بل هو جزء من التجربة الأدبية العالميّة التي تجمع بين الثقافات وتتعالى على التصنيفات الضيّقة.
اللغة الأمّ: رمز الهويّة
هنالك نوع من الازدواجيّة في التعامل مع هذه الظاهرة كرديّاً، إذ يميل بعض الكُرد إلى اعتبار الكتابة بلغة أجنبية مثل الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو الإسبانية نوعاً من "الفتح الأدبي". ويُنظر إلى هؤلاء الكتّاب على أنّهم يحقّقون إنجازاً كبيراً، إذ يتمكّنون من الوصول إلى طيف عالميّ أوسع. في المقابل، يُنظر إلى الكتابة بالعربيّة أو التركيّة أو الفارسيّة على أنّها نوع من الخيانة للغة الأمّ.
ويشعر العديد من الكرد بأنّ العربية والتركية والفارسية تمثّل "أدوات" لإدامة التحكّم بهم وبخياراتهم الثقافيّة، إذ تُعدُّ هذه اللغات قوى مهيمنة تُلغي وتُهمّش لغتهم الأصليّة. في نظرهم، يُمثّل استخدام هذه اللغات نوعاً من الاستسلام والتبعيّة للغات الدول التي تضمّهم، ممّا يؤدّي إلى فقدان الهوية الثقافيّة واللغويّة.
التنوع اللغوي: ثراء في الأدب الكرديّ
بعيداً عن التصنيفات الجاهزة، فإنّ الأدب الكرديّ المكتوب بلغات غير الكرديّة يعكس التعدّدية الثقافية والتاريخية التي عاشها الكرد على مرّ التاريخ، والأدباء الكُرد الذين يكتبون بلغات الآخرين التي أصبحت لغاتهم، يعيدون تشكيل الهوية الأدبيّة عبر لغات جديدة، ويضيفون ثراءً وتنوّعاً إلى عالم الأدب بدلاً من تقليصه.
تم نشر هذا المقال بواسطة تطبيق عاجل
التطبيق الأول لمتابعة الأخبار العاجلة في العالم العربي
اضغط لتحميل التطبيق الآن مجاناً